سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين- رضي الله عنهم-: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه، فجلس يومًا في جمع لهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها عليهم، فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النّجْم: 19، 20]، ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى. اهـ. قلت: بلى، ألقى ذلك في مسامعهم فقط، ولم ينطق بذلك- عليه الصلاة والسلام- فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة، وسجد المسلمون والمشركون، إلا الوليد بن المغيرة، رفع حفنة من التراب وسجد عليه، فقالت قريش: ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه، فلما أمسى أتاه جبريل. فقال يا محمد؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به؟ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، فنزلت الآية؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول}، يُوحى إليه بشرع، ويُؤمر بالتبليغِ، {ولا نبيٍّ} يُوحى إليه، ولم يُؤمر بالتبليغ، فالرسول مكلف بغيره، والنبي مقتصر على نفسه، أو الرسول: مَن بُعث بشرع جديد، والنبي: مَنْ قرر شريعة سابقة، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول، وقد سئل- عليه الصلاة والسلام- عن الأنبِيَاءِ، فقال: «مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا، قِيل: فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قال: ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا»
{إِلاَّ إِذا تَمَنَّى}؛ هيأ في نفسه ما يهواه؛ كهداية قومه ومقاربتهم له، {ألقى الشيطانُ في أُمنيته}؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه، أو مقاربته، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له- عليه الصلاة والسلام- ثم ينسخ الله ذلك. أو {إذا تمنى}: قرأ، كما قال الشاعر:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ *** تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ
{ألقى الشيطان في أُمنيته}: في قراءته، حين قرأ سورة النجم بعد قوله: {ومناة الثالثة الأخرى}، تلك الغرانيق العُلى، كما تقدم.
قال القشيري: كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات، في خلال قراءته عند قراءة القرآن، عند انقضاء كل آية، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. اهـ. وقال ابن البنا: التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد، وما قال الزمخشري: قرأ تلك الغرانيق العلى، على جهة السهو والغلط، فباطل، لقول الله العظيم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النّجْم: 3، 4]، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي. اهـ.
قلت: فتحصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه- عليه الصلاة والسلام- من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا. فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لا سيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية- رضي الله عنهم- ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
{فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ} أي: يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، {ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته} أي: يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، {والله عليمٌ حكيم} أي: عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء، فقال: {ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً} أي: محنة وابتلاء {للذين في قلوبهم مرضٌ}: شك وشرك، {والقاسية قلوبهم}؛ البعيدة من الخير، الخاربة من النور، واليابسة الصلبة، لا رحمة فيها ولا شفقة؛ وهم المشركون المكذبون، فيزدادون به شكًا وظلمة. {وإِنَّ الظالمين} وهم الكفرة المتقدمة، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ تسجيلاً عليهم بالظلم، {لفي شقاقٍ بعيد} أي: عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.
{وليعلم الذين أُوتوا العلم} بالله {أنه} أي: القرآن {الحقُّ من ربك} أي: النازل من عنده {فيُؤمنوا به} أي: بالقرآن {فتُخْبتَ}: تطمئن، أو تخشع {له قلوبُهم} بالانقياد إليه والإذعان لما فيه، {وإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم} بالنظر الموصل إلى الحق الصريح، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا، لما أشكل منه، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول: يا سعترا بري. فسمع أحدهم: اسْعَ تَر بري، وسمع الآخر: الساعة ترى بري، وسمع الثالث: ما أوسع بري، فالأول: طالب للوصول، فقال له: اسع ترى بري، والثاني: سائر مستشرف على الوصول، فقال له: الساعة ترى بري، والثالث: واصل قد اتسع عليه ميدان النعم، فقال له: ما أوسع بري. وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع حسب ما عنده؛ فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار. والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ}: شك {منه}؛ من القرآن، أو الصراط المستقيم، {حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً}: فجأة، {أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم}، وهو عذاب يوم القيامة، كأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو عذابها، فزاد اليوم العقيم؛ لمزيد التهويل. واليوم العقيم: الذي لا يوم بعده، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا. وقيل: اليوم العقيم: يوم بدر، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة، كالريح العقيم؛ لا تأتي بخير، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره؛ لقتال الملائكة فيه، ولكن لا يساعده ما بعده، من قوله: {المُلكُ يومئذٍ لله} أي: السلطان القاهر، والتصرف التام، يومئذ لله وحده، ولا منازع له فيه، ولا تصرف لأحد معه، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا صورة ولا معنىً، كما في الدنيا، فإنَّ للبعض فيه تصرفًا مجازيًا صُوريًا. {يحكم بينهم} أي: بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان.
ثم بيّن حكمه فيهم، فقال: {فالذين آمنوا} بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه، {وعملوا الصالحات} امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه {في جنات النعيم}، {والذين كفروا} بالقرآن وشكوا فيه، أو بالبعث والجزاء، {وكذبوا بآياتنا} الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن، {فأولئك لهم عذابٌ مهين}، يُهينهم ويُخزيهم.
ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة، فقال: {والذين هاجروا في سبيل الله}: خرجوا من أوطانهم مجاهدين، {ثم قتلوا} في الجهاد، {أو ماتوا} حتف أنفهم، {لَيَرزقنَّهم الله رزقًا حسنًا}، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوتة، فيجوز تفاوت حال المرزوقين، حسب تفاوت أرزاق الجنة. رُوي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نَبِي الله؛ هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا مَعَكَ؟ فنزلت: {والذين هاجروا...} الآيتين. وقيل: نزلت في طوائف، خرجوا من مكة إلى المدينة، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
ثم قال تعالى: {وإِن الله لهو خير الرازقين}، فإنه يرزق بغير حساب، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره، {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ}، وهو الجنة؛ لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، قيل: لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن، {وإِن الله لعليمٌ حليمٌ}، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا.
الإشارة: من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام، حتى يلقى الله بقلب سقيم، فيُفضي إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم، ثم قتلوا قبل الوصول، أو ماتوا بعد الوصول، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا، وهو لذة الشهود والعيان، في مقعد صدق مع المقربين، {وإن الله لهو خير الرازقين}. والمدخل الذي يرضونه: هو القرب الدائم، والشهود المتصل. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه.


قلت: {ذلك}: خبر، أي: الأمر ذلك. و{مَن عاقب}: شرط سدّ مسد جوابه، أي: من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذلك} أي: الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال: {ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به} أي: لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا؛ للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. {ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ} أي: من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره؛ {إِنَّ الله لعفوٌّ} يمحو آثار الذنوب، {غفورٌ} يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما: أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40]، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله: {ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ} أي: ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء. ومن آيات قدرته أنه {يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل} أي: يُدخل أحدهما في الآخر، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر. أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما، بإدخال أحدهما على الآخر، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر، والبغي والإنصاف. {وأن الله سميع} لما يقولون، لا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات، {بصير} بما يفعلون، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات.
{ذلك بأن الله هو الحقُّ} الواجب لذاته، الثابت في نفسه، الواحد في صفاته وأفعاله، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات، عالمًا بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق، وعبادته حق، {وأن ما تدعون من دونه} إلهًا {هو الباطل} ي: المعدوم في حد ذاته. أو الباطل ألوهيته، {وأن الله هو العليُّ الكبيرُ} أي: المتعالي عن مدارك العقول، وعن سمات الحدوث، أو المرتفع على كل شيء بقهريته، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء؛ إذ كل شيء يصغر دون كبريائه، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا؛ لأن له الوجود المطلق.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته؛ لينصرنه الله عليها، حتى يغلبها ويملكها، فكلما هاجت عليه هجم عليها، حتى يملكها؛ ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة، ويولجُ نهارَ الطاعة في ليلِ المعصية، أي: يدخل أحدهما على الآخر، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح. أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة، فتنقلب الطاعة معصية، إذا صحبها علو واستكبار. ويولج نهار الطاعة في عين المعصية، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار. ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما دونه باطل.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10